التضخم المؤسساتي خطر على الدولة
منذ أيّام صدرَ بالرائد الرسمي التونسي أمر متعلّق بإحداث مؤسسة عمومية جديدة بالبلاد تحت اسم: “الديوان الوطني للأعلاف”. وجاء إحداث هذا الديوان، حسب بلاغ رسمي، “تجسيمًا لتعليمات رئيس الجمهورية، قيس سعيد، بضرورة إنهاء أزمة الأعلاف في تونس والقطع مع الاحتكار في المجال، في وقت تتفاقم فيه أزمة الأعلاف مع تواصل سنوات الجفاف وقلّة المراعي”.
حلّ خاطئ لمشكل حقيقي
مشكل توفير الأعلاف لصالح مُربّي المواشي والأبقار مشكل حقيقي ومتواصل منذ سنوات طويلة. والأزمة استفحلت في المدّة الأخيرة؛ بسبب تواتر سنوات الجفاف، وبسبب الأزمة المالية للدولة التي أدّت إلى تقليص الواردات من الحبوب. ومشكل ممارسات الاحتكار والمضاربة التي ترتكبها شركات توريد وتصنيع الأعلاف مشكل حقيقي يتسبّب في ندرة الأعلاف وارتفاع أسعارها بشكل صاروخي، وينتج عنه ارتفاع كبير في تكلفة الإنتاج الحيواني، وتهديد خطير للثروة الحيوانية في البلاد. وليس المجال هنا لتعداد أسباب الأزمة واستتباعاتها، وإنما المجال لدراسة مدى جدوى الحل الذي اختارته السلطة التنفيذية للخروج من تلك الأزمة.
لا شك أن استفحال الأزمة خلال السنوات الأخيرة ناتجٌ عن غياب الإرادة والفعل والسياسات الاستباقية. وأنه من الضروري المبادرة بحلول فعالة للتصدي لها وإيجاد حلول لإنهاء الاحتكار، وتخفيض الأسعار ومنع التهريب.
فهل يكمن الحلّ في إحداث هيكل جديد في الدولة، كما قرّر رئيس الدولة؟
بالتأكيد لا! هذا القرار هو حل خاطئ لمشكل حقيقي.
الدولة لا تنقصها هياكل لإنجاز المهام الموكلة للديوان المحدث. وصلاحيات الهيكل الجديد موجودة أصلًا تحت إشراف مؤسّسات، مثل: ديوان تربية الماشية وتوفير المرعى، وديوان الحبوب، وديوان الأراضي الدولية، والإدارة العامة للإنتاج الفلاحي، واللجنة الوطنية لمنظومة الأعلاف ومعاهد الدراسات وهياكل البحث بوزارة الفلاحة وغيرها من المؤسسات.
فما الدافع لإحداث هيكل جديد؟
عقلية قديمة تقاوم التغيير
إحداث هيكل للتصدّي لإشكال ما قرارٌ يعكس النظرة التقليدية للدولة المتكلّسة التي بقيت تفكّر وتتصرّف بعقلية ستّينيات القرن الماضي وترفض التطوّر وتقاوم التغيير.
أمام كل تحدٍّ جديد أو حاجة مستحدثة، يتوجّه العقل الباطني للدولة مباشرة إلى إحداث هيكل جديد للتصدّي للموضوع؛ لأن ذلك هو الحل الأسهل والأسرع نظريًا في الإنجاز، والذي يجنّب تحريك أو هزّ الهياكل المتراكمة بعضها فوق بعض وتغيير قواعد عملها وعاداتها المتوارثة.
هذه العقلية قادت إلى إرساء هيكلة متشعّبة جدًّا داخل الدولة التونسية تتضمّن ما لا يقل عن 220 منشأة ومؤسسة عمومية في جميع القطاعات، من منشآت ومؤسّسات عمومية لا تكتسي صبغة إدارية وشركات مملوكة كلّيًا للدولة وشركات فيها مساهمة بأكثر من 50% من رأسمالها من الدولة أو إحدى شراكاتها أو الجماعات المحلية، علاوة عن المؤسّسات ذات الصبغة الإدارية والمجامع المهنية وغيرها.
وينضاف إلى هذا النسيج المعقّد من المؤسسات هيكلةٌ متشعّبة من الإدارات العامة والهياكل داخل كل وزارة من الوزارات بشكل تراكمي فيه – أحيانًا كثيرة- تداخل في المسؤوليات، وتنازع في الصلاحيات، وتضخّم في البيروقراطية. من ذلك مثلًا وجود ما يقارب 150 إدارة عامة في وزارة الفلاحة حسب أحد الخبراء !!
وقد انبنى هذا النّسيج من الهياكل بطريقة تراكميّة منذ المرحلة الاستعمارية. وتكثّف إثر الاستقلال عند مرحلة تركيز مؤسَّسات الدولة وإطلاق المخططات التنموية المركزية لبرمجة وتنظيم الاستثمارات العمومية في مختلف القطاعات بغرض تحقيق النمو الاقتصادي، عبر دعم النشاطات المنتجة للثروة والقيمة المضافة والموفّرة لمواطن الشغل، وكذلك الحدّ من الفقر وتحسين مستوى المعيشة ودعم التوازن الجهوي. وتواصل ذلك النهج بشكل حثيث رغم انتقال الاقتصاد التونسي من التأميم (1956- 1961) إلى الاشتراكية (1961-1969)، إلى الليبرالية والانفتاح (1970-1982)، إلى الاصلاح الهيكلي المفروض خارجيًا (إثر أزمة الثمانينيات) إلى التحرير والاندماج في السوق الدولية (منذ التسعينيات).
ونتيجة لهذا التضخّم المؤسساتي، أصبحت الدولة في تونس كيانًا ضخمًا يزداد حجمًا بشكل متواصل، رغم أنه يقف على ساقَين ضعيفتَين. وتشعّبت مهامها لتتجاوز القطاعات الخِدمية والحيويّة لتصل إلى مجالات ومهام ستثير استغرابكم. حيث تحتكر الدولة توريد القهوة والشاي الأحمر والأخضر والأرز، والزيت النباتي، وتنتج الدُّخَان والنرجيلة، وتُسيّر الطرق السيّارة، وتحفر الآبار، وتصنع الإسمنت والكحول والورق، وتعبّئ السكّر في الأكياس، وتسيّر الرهانات الرياضية، وتنتج اللحوم وكتاكيت الدجاج، وتنظّم سباقات الخيل … ويُراد لها اليوم أن تُنتج العلف للمواشي والأبقار.
وتجدر الإشارة إلى أن الغالبية العظمى من المنشآت العمومية في تونس تعيش وضعًا ماليًا كارثيًا، وبعضها في حالة إفلاس وتعتمد بشكل شبه كامل على دعم الدولة لخلاص أجور موظفيها وفاتورات مزوّديها وضمان قروضها، مع تدهور الإنتاج والإنتاجية، بما فيها تلك التي تنشط بمفردها في قطاعها في السوق. ومن الأسباب المشتركة لهذه الوضعية ضعف التسيير، وتدهور الحوكمة، وغياب الرقابة وانتشار الفساد والمحسوبية.
إحداثات اعتباطية أحيانًا
تحوّل إحداث المؤسسات والهياكل في بعض الأحيان إلى قرارات اعتباطية غير مدروسة، أو مقصودة بغرض تحصيل منافع شخصيّة لصاحب القرار، أو احتكار سوق معيّن في القطاعات التنافسية أو مكافأة أو ترضية شخص من المقرّبين لصاحب القرار وتمتيعه بمنصب وامتيازات وسيارة وظيفية وحظوة واعتبار.
وعلى سبيل المثال، سبق لنا أن خضنا معركة في البرلمان التونسي ضد قرار للحكومة في 2016 بإحداث مؤسّسة “ديوان الخدمات المدرسية” بشكل مستعجل وغير مبرّر ومخالف لتوجّه الدولة نحو اللامركزية. واعتبرنا أن الهدف الحقيقي وراء ذلك القرار كان توحيد صفقات تزويد المدارس والإعداديّات والثانويات في كل أرجاء البلاد بالمواد الغذائية وغيرها من الخدمات في صفقات مركزيّة كبرى، بعد أن كان التزويد محلّيًا وتحت إشراف مديري المؤسسات التعليمية، وذلك بغرض حصول مسؤولين كبار على عمولات من كبار المزودين. وتم تمرير الإحداث بالقوة، وتواترت بعدها الاتهامات بالفساد وبتدهور الخدمات المدرسية في مختلف جهات البلاد.
كما اعتبرنا في نوفمبر 2019 أن قرار إحداث “الديوان الوطني للمعابر الحدودية البرية” الذي تم بداية سنة 2016، ارتبط بتسميات فتحت الباب على مصراعيه للمحسوبية والزبونيّة والتعيينات على أساس الولاء والمعارف لا الكفاءة، والتلاعب في الانتدابات والإلحاقات والصفقات.
وهذه- طبعًا- ليست سوى نماذج بسيطة توضّح كيف أن زيادة وطأة البيروقراطية عبر إضافة هياكل جديدة تحفّز مناخات الفساد، وتقلّص من فاعليّة ونجاعة الخِدمات الاجتماعية، وتزيد في درجة الاحتقان المجتمعي وعدم الاستقرار السياسي.
في خطورة التضخم المؤسّساتي
إن شئنا أن نقدم تعريفًا للتضخم المؤسّساتي، فيمكن أن نعتبره رديفًا للزيادة في عدد المؤسسات أو الهياكل الحكومية أو في الإجراءات البيروقراطية، مما يؤدي إلى تفاقم في التعقيد الإداري وفي تضارب المهام والصلاحيات، وزيادة في التكاليف، وفي استهلاك الموارد المالية والبشرية بشكل غير فعال، ونقص في الفاعلية والنجاعة، وتدهور في مناخات الحوكمة والشفافية.
حيث تنتج عن إضافة هياكل جديدة أعباء مالية إضافية متعلقة بالميزانية التشغيلية للهيكل المضاف، من تأجير مقرّات وتجهيزها وانتداب موظّفين واقتناء سيّارات وظيفيّة وتخصيص امتيازات وغيرها من المصاريف. وهو ما يتناقض مع ما تتّجه نحوه تونس الآن- وكل الدول التي تعيش أزمات بما فيها بعض الدول المتقدمة، مرغمةً- من تخفيض إجباري في كتلة الأجور، وتقشّف في مصاريف الدولة.
كما تنتج عن ذلك زيادة في العبء البيروقراطي، وتعقيد للعمليّات ممّا يُضعف الكفاءة والفاعلية، ويتسبّب بتأخير في اتّخاذ القرارات. خاصة أن الهياكل الجديدة تتطلّب الكثير من الوقت لتحصيل النضج والانسجام والتفاعل مع الواقع. كما يتطلّب الأمر وقتًا طويلًا لفضّ نزاعات الصلاحيات والمهام مع الهياكل القائمة.
وهو ما شهدناه في مرصد رقابة بشكل جليّ عند إحداث “الهيئة الوطنية للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية” بتونس وَفقًا لمقتضيات القانون 25 لسنة 2019. وهي الهيئة التي أُريد لها أن تُجمِّع كل الهياكل والمهام والموظفين المعنيين بالسلامة الصحية وجودة المنتجات الغذائية وأغذية الحيوانات في وزارات الفلاحة والتجارة والصحة. ولكن تضارب المصالح والصلاحيات والنزاعات بخصوص الامتيازات ما زالَ يعطّل الانطلاق الفعلي لعمل الهيئة، ممّا تسبّب في تدهور خطير في الرقابة على المنتجات الغذائية في البلاد، وخاصة المواد الغذائية المورّدة، حيث أضعنا المنظومة السابقة للرقابة، ولم ننجح بعد في إرساء المنظومة الجديدة.
كل ما سبق يؤكد أن التضخّم المؤسساتي من شأنه أن يشوّش على تحقيق الأهداف الرئيسية المنشودة للمرفق العمومي، ويصرف الكثير من الموارد والجهود إلى إجراءات إدارية وتعقيدات عملية ونزاعات عبثية بدل التركيز على الإنجازات والتطوير.
وبالعودة لقرار إحداث “الديوان الوطني للأعلاف”، فهو يدخل بدون شك في إطار التضخّم المؤسساتي الفاقد للمعنى والجدوى. ولن ينتج عنه حلُّ أزمة الأعلاف، وإنهاء الاحتكار، وتخفيض الأسعار، وإيقاف نزيف تهريب الأبقار المدمّر للاقتصاد المحلّي في الأمد المنظور.
بل سينتج عنه اضطراب أكبر لمنظومة الأعلاف لمدّة طويلة، هي المدّة التي سيتطلّبها بناء مؤسّسة جديدة وفضّ نزاع الصلاحيات المتداخلة بينها وبين مختلف الهياكل القائمة، وإرساء منظومات عمل فعّالة، وبالتجربة قد يأخذ كل هذا من ثلاث إلى خمس سنوات. وليس مضمونًا ألا يُصاب الجسم الجديد بفيروس الفساد المتفشّي في هياكل الدولة، ويتحوّل الديوان المُراد به إنهاء الاحتكار والمحسوبية والفساد إلى هيكل يُمارس احتكارًا أخطر من احتكار القطاع الخاص، ويُمارس المحسوبية والفساد والرِّشوة في إدارة كل مراحل توريد وإنتاج وتوزيع الأعلاف. مصداقًا لما أسميناه سابقًا “فساد البدايات“.
ما البديل عن التضخّم المؤسساتي؟
بدلًا من اللجوء إلى إحداث مؤسّسات جديدة للتصدّي لتحدّيات نوعيّة، يُمكن للدولة اتخاذ العديد من البدائل لتحسين الكفاءة والفاعلية في التعامل مع تلك التحديات، دون الاضطرار للمخاطرة غير المضمونة ولتكاليف مالية وأعباء بيروقراطية إضافية.
لا بد أولًا من إنجاز تشخيص جذري للعوامل التي أنتجت الوضع المستهدف، والأسباب العميقة التي ساهمت فيه. والتشخيص الدقيق هو أول خطوات الحل. وفي علاقة بملف الأعلاف، كان يفترض أن يستند أي قرار إلى تشخيص لأسباب ندرة الأعلاف في السوق وارتفاع الأسعار، والعوامل القانونية والترتيبية التي أدّت إلى هيمنة بعض المجموعات الرَّيعيّة على منظومة الأعلاف، وما هي اللوبيات المتداخلة وما سرّ نفوذها، وما هي الإخلالات في منظومة إنتاج وتوريد وتسويق الحبوب ومنظومة المراعي التي سمحت بتدهور توفير الأعلاف ..إلخ.
الإجابة الدقيقة عن كل هذه التساؤلات وغيرها تبيّن بشكل واضح الإخلالات الواجب التصدّي لها لحل الإشكال، ومن ثمّة تحديد أبواب الإصلاح الضرورية لإنهاء كل تلك الإخلالات.
عندما توضع كل الإصلاحات اللازمة على الطاولة، سيكون من الممكن رؤية المشهد بعين شاملة، وتحديد ما يتطلبه الأمر من تغييرات هيكلية ومؤسساتية وتشريعية.
قبل التفكير في إحداث مؤسسة جديدة، يجب التفكير في مدى إمكانية تطوير حوكمة ونجاعة الهياكل القائمة حتى تكون قادرة على التصدّي للتحدّي المستحدث. وذلك عبر توضيح الصلاحيات وربّما إعادة توزيعها ضمن رؤية شاملة بشكل يغطّي كل جوانب الموضوع، ويُنهي حالات النزاع أو تضارب المصالح بين الهياكل ذات المهام المتداخلة، ويؤسّس لتقاليد تعاون وانسجام وتكامل بين تلك الهياكل.
المطلوب كذلك تنزيل سياسات تنظيمية مجدّدة لتخفيف وطأة البيروقراطية وتبسيط الإجراءات، وتحفيز الابتكار لدى تلك الهياكل من أجل إيجاد الحلول المستحدثة للإخلالات المرصودة. كما يجب الاستثمار في تطوير مهارات وقدرات الإطارات والأعوان داخل الهياكل المعنيّة لتعزيز استعدادهم للتعامل مع التحدّيات المتزايدة.
وفي المقابل تحفيز الشفافية والمساءلة لهم، وتطوير منظومة الرقابة على كل جوانب التحدّي المطروح. والاستثمار في أدوات الرقابة أجدى بكثير من الاستثمار في بناء هيكل جديد معرّض للإصابة بالأمراض نفسها. وأهمّ استثمار يجب أن يحصل هو في الرقْمنة والمنظومات والتطبيقات المعلوماتية الكفيلة بإرساء الرقابة والشفافية والحوكمة الرشيدة، وتقليص العلاقة بين الإدارة والفاعلين الاقتصاديين والمواطنين.
الحل المعقول والفعال للتصدي للتحدّيات المستحدثة يجب أن يكون في إطار إعادة تموقع الدولة حول مهامها الرئيسية في رسم سياسات التنمية المستدامة، وتوفير الخدمات الأساسية والعمل على تحقيق توزيع عادل للثروة، وعلى تشجيع التشغيل، والحفاظ على التوازنات الاقتصادية، وعلى الأسعار، وتوفير بنية تحتية ومناخات أعمال ومنظومات معلوماتية تشجّع التنافس والمبادرة، وتعزّز الرقابة والشفافية، وتحارب الاحتكار والفساد. مع ضرورة العمل على تقليص الإنفاق الحكومي غير المبرّر وتقليل تدخّل الدولة في القطاعات التنافسية وحصرها في المجالات الحيوية.
إنَّ قرار الرئيس سعيد الأخير بإحداث ديوان وطني للأعلاف خطوة في الاتجاه الخاطئ، يعكس غياب الرؤية ورفض التغيير والمكابرة في الاعتراف بأزمة الدولة، وباستحالة مواصلة الهيكلة القديمة المتهالكة، وعدم الوعي بأنه “وقفت الزنقة بالهارب”، كما يقول المثل التونسي الذي يعني الوصول إلى حائط مسدود.
وهذا ما يجعل مسؤولية العمل على إنجاز رؤية مستقبلية لإصلاح الدولة وتطوير حوكمتها مهمة مصيرية ملقاة على عاتق النخب المقتنعة بالتغيير، دون إضاعة الوقت في انتظار رؤية لن تأتي ممن يفتقدها.