السبيل إلى إحياء السياسة بعد موتها في تونس (2/2)

من أكثر الشعارات التي أضرَّت بالنخب السياسيّة، وحركات التغيير في المجال العربي بصفة عامّة، وفي تونس بصفة خاصة، شعار: “السياسة فنّ الممكن”، المنسوب إلى “بسمارك” موحّد ومؤسّس الإمبراطورية الألمانية، والمرتبط بنظريتَي؛ الواقعية السياسية والبراغماتية.

هذا الشعار، الذي برّر طيلة عقود طويلة ارتهانَ قوى سياسية عديدة من مدارس أيديولوجية مختلفة لتوازنات الأمر الواقع، وإكراهاته، تحت مسمّى الموضوعية والمرونة في التعامل مع الواقع وشروطه الراهنة على قدر الإمكانات المتاحة، وعدم الانسياق وراء التنظير، والأيديولوجيا، والعاطفة و”الإرادة المستحيلة،” عند رسم السياسات، واتخاذ القرارات.

ربّما كان هذا المنهج مفيدًا ونافعًا لو كان الأمر الواقع- الذي تتم مراعاته والاحتكام إليه عند اتخاذ القرارات- ملائمًا وايجابيًا لتلك القوى. ولكنّها ظلّت طيلة عقود- عدا فترات محدودة لم تُحسن استثمارها- تخرج من واقع معقّد ومُعادٍ، نحو واقع أكثر تعقيدًا تُحدّد معالمه قوى داخلية وخارجية، ترفض التغيير، وتقاوم الإصلاح، وتعمل على المُحافظة على الوضع الراهن والمصالح القائمة.

وهو ما يجعلها اليوم أمام معادلة صعبة ينحصر فيها مجال “الممكن”، لدرجة تجعل من الفعل المتاح أضعفَ من إنجاز التغيير المنشود، أو حتى التأثير الجِدّي في الواقع ذاته.

في مبرّرات الواقعية السياسية

دعنا نعترف بأنّ أغلب الفاعلين السياسيين في تونس، وفي عموم المنطقة، وصلوا إلى مدرسة الواقعية بعد أن جرّبوا طويلًا رسم سياساتهم بالاعتماد على التنظير والأيديولوجيا والعاطفة و”الإرادة المستحيلة”، وفشلوا فشلًا ذريعًا في تحقيق أهدافهم وتغيير الواقع.

حيث عجز الوطنيون عن تحقيق الاستقلال الحقيقي والسيادة، والشيوعيون عن تحقيق العدالة الاجتماعية، والقوميون عن تركيز الوحدة العربية، والإسلاميون عن استعادة الخلافة وتطبيق الشريعة وإرساء العدالة، والليبراليون عن بناء اقتصاد سوق مفتوح، مع حريات فردية وجماعية، والديمقراطيون عن إرساء حكم الشعب، وفرض التشاركية، وبناء دولة القانون والمؤسسات.

ودفعت كل التيّارات، على مراحل متعددة، أثمانًا متفاوتة؛ بسبب تصادمها مع الأمر الواقع المتمثل في الدولة العميقة، والأجهزة الصلبة، ولوبيات المصلحة والنفوذ، والقوى الإقليمية والدولية المهيمنة. بعضهم وصل إلى هذا المنهج قناعة بعد تطور فكري وتنظيمي وسياسي. والبعض الآخر يعتمده كتكتيك مرحلي في انتظار نافذة إطلاق جديدة، أو فرصة لتحقيق ما كان مستحيلًا في واقع سابق.

أغلب تلك القوى تردُّ على “الثورجيّين”- الذين يتّهمونها بالانتهازية والارتهان للواقع على حساب المستقبل- بالقول: إن الواقعية السياسية ليست سوى منهجية لفهم متطلبات الواقع، وتحليل موازين القوى فيه، وفرز الأهداف الممكنة من المستحيلة، في إطار الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع والدولة، والحكمة في ترتيب الأولويات؛ خدمةً للصالح العام، وفي إطار الحرص على التعايش، وضمان الانسجام الداخلي والأمن الخارجي، وحلّ النزاعات دون عنف، وتغيير الواقع تدريجيًا دون تعسّف.

وكثيرًا ما تتّهم تلك القوى الأشخاصَ والأطرَ التي ترفض التعامل مع الأمر الواقع، وتحاول تحدّي موازين القوى، بالثورجيّة والمثالية الساذجة والحُلم الواهم، والتطرّف والصداميّة، والتسبّب، باسم القيم والمبادئ والحرص على التغيير، في صدامات وكوارث تعطّل التغيير أكثر، وتصعّب عليهم مهمّة التعامل الحكيم مع الواقع.

هذا الكلام ليس تنظيرًا، وإنما واقع عاشته تونس طيلة عقود تحت ظل دكتاتورية بورقيبة وبن علي. وعشناه أكثر في تجربة ما بعد ثورة 2011، وتجربة ما بعد الانقلاب على الديمقراطية في 2021، اللتين شهدتا تغيّرات نوعية مفاجئة في الواقع؛ بفضل جهات فرضت إرادتها على ذلك الواقع دون مراعاة موازين القوى القائمة، وفرضت على الجميع إعادة حساباتهم، وإعادة التموقع ضمن المعادلات الجديدة.

وقد رأينا كيف أفرزت الواقعيّة السياسية تكتلات انتهازيةً وتحالفات غير طبيعية وتنازلاتٍ شملت الثوابت وتراجعًا عن أولويات مصيرية، ولهثًا وراء مكاسب وهمية. والنتيجة كانت انقسامًا مجتمعيًا وصراعًا أيديولوجيًا أكبر مما كان عليه الأمر قبل الثورة، وتعطّلًا لمسارات التغيير التي انطلقت بعد الثورة، وشملت عددًا من مؤسسات الدولة، وتوقّفًا لنوايا الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، ومحاولات الإصلاح السياسي والإداري والتربوي والأمني، واستفحالًا لظاهرة الفساد، وسلطة اللوبيات، وتدهورًا للسيادة الوطنية، واضطرابًا للهُوية الوطنية، وفشلًا في تحقيق أهداف الثورة، وإعدادًا لمُناخات ملائمة لانتشار الشعبويّة.

تدهور السياسة بسبب غياب “الفن” وتقلُّص “الممكن”

“فن الممكن” كلمتان؛ الأولى: “فنّ”، وتشير إلى القدرة الذاتية للفاعلين السياسيين، ومدى تملّكهم أدوات فهم الواقع، وتحليل معادلاته، وقياس توازناته، ومدى الفطنة والذكاء في ترتيب الأولويات، وتقدير التموقع المناسب والخطوات الملائمة، ومدى الكفاءة في المناورة والمبادرة، والتعامل بمرونة وموضوعية مع الواقع وشروطه، على قدر الإمكانات المتاحة، ومدى القدرة على الربط بين متطلبات اللحظة والثوابت والأخلاق والمسؤولية.

والكلمة الثانية: “الممكن”، وتشير إلى الإمكانات المتاحة للفاعل السياسي في ظلّ الظروف الواقعية الموضوعية الخارجة عن نطاقه. وتتضمن تلك الظروف مجمل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والنفسية في البلاد، وسياسات وسلوكيات مختلف الجهات الداخلية والخارجية المؤثرة في الواقع، والتوازنات الموجودة في المجتمع والدولة، والروح المعنوية لعموم الناس، وتوجهات الرأي العام، وغيرها من العوامل التي تؤثّر في الواقع.

وبالتالي عندما نجمع الكلمتَين لبناء مفهوم السياسة، نصل إلى معادلة نصفها مرتبط بالإرادة الذاتية، والنصف الثاني مرتبط بعوامل خارجية. وهو ما يجعلها هشّة وغير مضمونة النتيجة. إذا توفّرت العوامل الذاتية في ظل عوامل موضوعية غير مناسبة غابت النتيجة. وإذا لم يتوفّر “الفن” وتواجدت الإمكانية غابت النتيجة أيضًا.

في وضعنا التونسي، ليس من الإجحاف القول: إن “الفن” لم يكن في الموعد في السنوات الماضية لدى أغلب الفاعلين. غابت الحكمة وفهم الواقع، وتحليل المعادلات، وروح المبادرة والموازنة بين الثوابت والمتغيرات لدى أبرز مكوّنات المشهد السياسي، أساسًا؛ بسبب غياب التجديد القيادي، ومواصلة هيمنة الجيل القديم ومناهجه التقليدية، وانعدام التأطير والابتكار، وعزوف الشباب والمبادرين بسبب ذلك.

من ناحية أخرى، عادت مجالات “الممكن” للانكماش والتقلّص لأبعد الحدود بعد الانقلاب على الديمقراطية في يوليو 2021، بعد أن كانت توسّعت بشكل هائل بعد الثورة؛ بسبب مناخات التنافس الديمقراطي، وحرية التعبير، والاستقرار المجتمعي النسبي، وروح التفاؤل التي دامت سنوات.

وبالتالي، أصبحنا اليوم أمام معادلة يغيب فيها “الفن،” وينعدم فيها “الممكن”. وهو ما يفسّر سبب ما يسمّيه بعض المحلّلين: “موت السياسة” في تونس. ويجدر تسميته بالأحرى: “موت السياسة الواقعية”؛ سياسة “فن الممكن” في البلاد.

إذا لم تكن السياسة “فن الممكن” فماذا تكون؟

لا شكّ أن شعار “السياسة فنّ الممكن”، يمثل رؤية محدودة لدور السياسة في تشكيل المجتمع، وأن الاقتصار على “الممكن”، فيه تقييد للإبداع السياسي، خاصة في ظل ظروف معقّدة مثل الدكتاتورية أو الشعبوية، ناهيك عن الاحتلال الخارجي. وحيث إن جوهر الفعل السياسي هو العمل على تحقيق التغيير، فمن الواجب عدم الارتهان للواقع وإكراهاته وتوازناته، وعدم القبول بتعديل الأهداف والأولويات للتأقلم معه.

ومن اللازم تحدّي ذلك الواقع والحرص على تغييره نحو الأفضل، والعمل على تحويل ما هو ضروري إلى ممكن. كما قال الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك في خطاب أثناء حملته الانتخابية سنة 1995: “السياسة ليست مجرد فن الممكن. هناك فترات يصبح فيها الفن هو جعل ما هو ضروري ممكنًا”. وأظن أن الفترة الراهنة هي من تلك الفترات.

من هذا المنطلق، عوض الانطلاق من الواقع المحدود لبناء الرؤية الإستراتيجية المستقبلية الممكنة والقابلة للتحقّق، يجب البدء بتحديد معالم المستقبل المأمول ومتطلباته وشروط الوصول إليه، ثم بناء الرؤية الإستراتيجية بالاستناد إلى معرفة الواقع الحالي، وفهم التحديات والفرص الراهنة.

من هذا المنطلق يصبح “الفن الحقيقي في السياسة يكمن في قدرة القادة على رؤية المستقبل وبناء جسور لتحقيقه”. وهو ما يحوّل السياسة إلى وسيلة لخلق رؤية مُلهمة للمجتمع تُركّز على أهداف طموحة تتخطّى الحدود التقليدية للممكن.

وحتى يتبيّن الفرق بين المقاربتين دعنا نطبّقهما على وضع حركات المقاومة للاحتلال. فإذا انطلقت حركات المقاومة من الواقع الراهن، واقع الاستضعاف والحصار وغياب الإمكانات والسند، لرسم رؤية مستقبلية، فستكون تلك الرؤية متدرّجة وخجولة، وسقف طموحاتها تحقيق الاستقلال والانعتاق.

وإذا انطلقت في إعداد رؤيتها بتحديد الصورة المستدامة المثلى للمستقبل الذي تطمح لتحقيقه في أمد منظور- بغضّ النظر عن الاحتلال الجاثم اليوم وجرائمه- فستكون الرؤية أكثر طُموحًا وأكثر إلهامًا وتحفيزًا للشعب، ليس فقط على تحقيق الأهداف المرسومة، بل أيضًا على إزالة العوائق التي تحُول دون ذلك؛ أي الاحتلال البغيض وترِكته. على شرط أن تستند القيادة، في تحديد تفاصيل الرؤية، إلى معرفة دقيقة بالواقع وتحدّياته، والفرص التي يمكن استثمارها لتحدّي الواقع المكبّل وتغييره.

وسياق الاستبداد في عالمنا العربي لا يختلف كثيرًا عن سياق الاحتلال، بما هو انتهاك للحقوق والحرّيات واستفراد بالقرار السياسي، وبإدارة موارد البلاد وثرواتها. وبالتالي يصحّ على حركات التغيير في المنطقة، ما يصحّ على حركات التحرّر.

على فكرة، في كلا السياقَين، ليس من الضروري أن تكون السياسة أصلًا “فنًّا”؛ أي إتقانًا لكلّ أدوات الممارسة السياسية من فهم وتحليل ومرونة ومناورة، وإنما يجب أن تكون بدرجة أولى “نضالًا” مستمرًّا لتحدّي الظروف المعطلّة للتغيير، وكسر “المستحيل”، وتحويله إلى واقع. وأهمّ خصائص النضال المستمرّ التفاعل الدائم مع الواقع، والتعلّم من الأخطاء، وتطوير الأداء، والاقتراب مع الوقت من درجة “الفن”.

موت السياسة خطر على الدولة والمجتمع

لا يلوح أي أفق للخروج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وأزمة الحكم في تونس، في الأمد المنظور. وتبدو الوضعية في حالة انسداد تام؛ بسبب تعنّت الرئيس واستفراده بالقرار، وتمسّك محيطه المتنفّع باحتكار السلطة والاستفادة منها، وضعف المعارضة الشديد، وعدم قدرتها على المبادرة والتحشيد بعد سجن أغلب قياداتها، وانتظاريّة وسلبية الإدارة والأجهزة الصلبة التي تُطبّق التعليمات دون قناعة، وتتمدّد في الفراغات لنيل نفوذ إضافي دون رؤية، وانكفاء الكفاءات وناشطي المجتمع المدني، وعزوف عموم الناس عن الشأن العام وانكبابهم على أوضاعهم المعيشية المتدهورة، وعدم اكتراث الشركاء الاقتصاديين الأجانب، واكتفاء أغلبهم بالتعبير عن المخاوف من انهيار الدولة.

في ظلّ هذا الوضع، قامَ النظام الحاكم بمشاركة من أجهزة الدولة باغتيال السياسة عمدًا. حيث انتهت تقريبًا كل مظاهرها من عمل حزبي، وأنشطة جماهيريّة، وحوارات مجتمعية، وتحالفات ظرفيّة، وتكتّلات مبدئية، وصراع برامج، وتنافس في المواقف وأخذ وردّ، وهجوم ودفاع وخلافات تحت قبة البرلمان، وسجالات في أستوديوهات الإذاعات والمحطات التلفزية.

وتقلّص الاهتمام بالشأن السياسي لأقصى حدّ في وسائل الإعلام الحكومية منها والخاصة، ومؤسسات سبر الآراء. وتوقف البثّ المباشر والتغطيات المكثفة لجلسات المجلس النيابي وبقية الأحداث السياسية، بعد أن كان ذلك خبزًا يوميًا للتونسيين منذ أيّام المجلس التأسيسي. وصارت نخب البلاد لا تكاد تعرف اسم وزيرٍ في الحكومة أو نائبٍ في البرلمان، بعد أن كانت شخصيات المشهد السياسي الواسع معروفةً من العامة.

اختار النظام قتل السياسة للحفاظ على السلطة، عبر احتكار توجيه الرأي العام، وإضعاف المعارضة، ومنع تواصلها مع عامة الناس، ومنع أي قوى سياسية أو مجتمعية من الاحتجاج والحوار والتكتل حول أهداف مشتركة بشكل قد يُفرز “مؤامرات” ضد النظام. ولعلّه نجح في مسعاه وقتيًا.

ولكن الأكيد أن نتائج هذا المسعى وخيمة جدًا على البلاد على المديَين: المتوسط والطويل. حيث إن ذلك يؤدّي إلى فقدان التعدّدية والتنوّع الفكري في المجتمع، كما يؤدّي إلى تشويه الوعي العام وفقدان الشفافية، ويخلق بيئة تُحفّز على الفساد وسوء الإدارة؛ بسبب تجريم الرقابة والمساءلة. وكلّ هذا يزيد في حدة التوتّرات والصدامات في المجتمع، ويدفع نحو العنف؛ سبيلًا لحل النزاعات. وهو ما قد يؤدّي إلى انهيار الدولة.

من أجل رؤية جديدة للسياسة في تونس

سهولةُ اغتيال السياسة في البلاد، واختفاؤها في وقت قياسي كأن لم تكن، يبيّن بالكاشف هشاشتها البنيوية وضعفها الهيكلي، وفشل مختلف فاعليها. وهو ما يطرح على المجموعة الوطنية واجب العمل على إعادة بناء السياسة في البلاد على أسس صلبة، وبفاعلين جدد أو قدامى قاموا بمراجعات عميقة، وإعادة تصويب للبوصلة، وبمنهج قائم على المبادرة والابتكار والحوار.

ليس هناك وصفة سحرية لإنعاش السياسة في البلاد وضخّ الروح فيها. ولا وجود لجهة مركزيّة قادرة على وضع مواصفات صارمة للعمل السياسي، ومراقبة مدى احترامها من طرف الفاعلين السياسيين. وإنّما هي مسؤولية جماعية لإعادة رسم حدود السياسة وأهدافها ورفع العراقيل التي تُحاصرها، ولتقويم الأداء السياسي، وتحسين شروطه، وتطوير مخرجاته. والحديث عن مسؤولية جماعية يفترض وجود جهات تبادر وجهات تتفاعل بالنقاش والتطوير والتحسين، في ديناميكية داخلية صحّية، هي من جوهر العملية السياسية.

بناءً على ما سبق، وانطلاقًا من تقدير ما يتطلّبه الأمر، نُبادر بتقديم خمسة موجّهات عامة كنقاط بداية لتحديد رؤية جديدة للسياسة في تونس.

أولًا: أعتقد أن تجديد السياسة في البلاد يتطلّب تجديدًا قياديًا لدى مختلف القوى السياسية الفاعلة، بشكل يُمكّن من ضخّ دم جديد في المشهد، ويكسر الحلقة المفرغة للعداوات الشخصية وصراعات الزعامة المتوارثة التي رهنت ماضي البلاد وترهن حاضره، ويخفّف من الاحتقان ومن عزوف الناس عن الشأن العام، ويفتح المجال لإدارة حوارات وصراعات برامج، وربما بناء تحالفات جدّية بين قيادات متقاربة في العمر والمعرفة بالواقع، والارتباط بالتكنولوجيا وبالأطروحات الحديثة كالتنمية المستدامة والحوكمة الرشيدة والاقتصاد الرقمي، وغيرها.

وهذا المسعى يتطلب إطلاقًا لديناميكية عابرة للهياكل السياسية تدفع الشباب للمنافسة على القيادة، وتفرض على القيادات القديمة تسليم المشعل.

ثانيًا: في تقديري- حتى تعود للسياسة روحها- من الواجب دفع القوى السياسية الرئيسية لتجاوز منهج “السياسة فن الممكن”، لأنّه لم يعدْ هناك “ممكنٌ”، يمكن أن يتحوّل إلى واقع في ظل الأوضاع الراهنة، والدفع عوض ذلك نحو منهج “النضال”؛ من أجل تحويل الضّروري إلى “ممكن”، عبر تجديد الأشكال النضالية، ونبذ خطاب “الانحناء للموجة القوية أفضل من التصدي لها”، والتصدّي لمحاولات التسويق لصفقات سياسية انتهازية على حساب المبادئ.

وهو ما يتطلّب إرساء ميثاق أخلاقي يحدّد جملة من الثوابت والقيم العليا المشتركة التي لا يجوز التخلّي عنها أو الإضرار بها تحت سقف الإكراهات والحسابات الظرفية والتوازنات الموهومة، وابتكار آليات رقابة مواطنية تعزّز الشفافيّة والمسؤولية والمساءلة في السلوك السياسي لمختلف الفاعلين الجدّيين.

ثالثًا: يجب عدم انتظار التغيير السياسي وعودة الديمقراطية للانطلاق في إعداد رؤية إستراتيجية لتونس المستقبل، تستشرف المستقبل، وتحدد القيم والأهداف والرسالة الوطنية، وترسم معالم تحقيق التنمية المستدامة، والعدالة الاجتماعية، والحكم الرشيد في البلاد، دون ارتهان للواقع الراهن.

إعداد مشروع رؤية، أو مشاريع تعدّدية، في وقت منظور هو مسؤولية يمكن أن تقوم عليها مجموعة من الكفاءات الوطنية المتحزّبة أو التكنوقراط المؤمنة بالتغيير والمهتمّة بمستقبل البلاد، والتي تمتلك معرفة دقيقة بالوضع الراهن، وتصوّرات ناضجة للوضع المأمول، “وفي ذلك فليتنافس المتنافسون”. ويمكن أن تكون الرؤية المأمولة إطارًا لإعداد تصورات الإنقاذ المرحلية، وبرامج الإصلاح الهيكلي والمؤسساتي والتشريعي المستقبلية.

رابعًا: أقترح المبادرة- في وقت منظور- بتنظيم حوار وطني، بأسلوب مبتكر، لمناقشة مشروع أو مشاريع الرؤية الإستراتيجية المستقبلية، وسُبل إنقاذ البلاد، وشروط التعايش، وبناء المشروع الوطني المشترك.

وفي غياب جهة لديها الشرعية والجرأة والقدرة على تجميع أكثر ما يمكن من ممثلي الطيف السياسي والاجتماعي داخل البلاد، يمكن أن يتم تنظيم فصول ومحطات من الحوار في إطار مبادرات متعدّدة من قوى مجتمع مدني داخل البلاد أو ضمن الجالية التونسية بالخارج. كما يمكن تنظيم حوار شامل مفتوح عبر منصّات إلكترونية بشكل يمكّن من إشراك مختلف الفئات، وتجميع وجهات النظر المتنوعة. وستفرض المبادرات الجادة نفسها، “وفي ذلك فليتنافس المتنافسون”.

خامسًا: لا شك عندي أن تحريك ديناميكيات المبادرة السياسية- بعيدًا عن احتكار الهياكل الحزبية- سيفتح المجال سريعًا لمشاركة فئات جديدة من الشباب وإطارات الإدارة وكفاءات البلاد التقنيّة في الداخل والخارج؛ للمشاركة في جهود البحث عن حلول بديلة للتحدّيات الراهنة، بالاستفادة من التكنولوجيا والإعلام البديل، وبدراسة التجارب الناجحة في العالم. وهو ما سيفتح أبواب الإبداع والتفكير خارج الصندوق واستكشاف أفكار غير تقليدية ونماذج جديدة تحمل في طياتها الإصلاح والتغيير.

إنّ الفراغ الكبير الموجود اليوم في المشهد السياسي، يفتح المجال أمام من يملك الجرأة وروح المسؤولية وطاقة الابتكار لأخذ زمام المبادرة وتنزيل المقترحات المطروحة أعلاه أو غيرها من أجل إعادة الروح والاعتبار للسياسة، وافتكاك موقع مستحقّ في المشهد السياسي القادم.

وفاز باللذّة الجَسُور؛ لذة المساهمة الريادية في التغيير.